سمير محمود عليوي | مركز دراسات الشرق الأوسط
ﺗﺘﺎﺑﻌﺖ ﺳﻨﻮات ﺣﺮب ﻧﻈﺎم ﺑﺸﺎر ﻋﻠﻰ اﻟﺸﻌﺐ اﻟﺴﻮري ﻷﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﻋﻘﺪ ﻣﻦ اﻟﺰﻣﻦ، ﻋﺎش ﺧﻼﻟﻬﺎ ﻣﻼﻳﻴﻦ اﻟﻼﺟﺌﻴﻦ اﻟﺴﻮرﻳﻴﻦ ﻓﻲ ﺗﺮﻛﻴﺎ، ﻋﻤﻠﻮا ودرﺳﻮا وﺗﻌﻠﻤﻮا اﻟﻠﻐﺔ، وﻛﺜﻴﺮ ﻣﻨﻬﻢ ﻳﻌﻴﻠﻮن ذوﻳﻬﻢ ﻓﻲ ﺳﻮرﻳﺎ، ووﻟﺪ ﻟﻬﻢ ﻣﺌﺎت اﻵﻻف ﻣﻦ اﻷﻃﻔﺎل اﻟﺴﻮرﻳﻴﻦ ﻋﻠﻰ أرﺿﻬﺎ، أﺛﺮوا ﻓﻲ ﺗﺮﻛﻴﺎ ﺗﺄﺛﻴﺮا ﻻ تخطئه اﻟﻌﻴﻦ، وﺗﺄﺛﺮوا ﺑﻬﺎ، أﻋﻄﺘﻬﻢ اﻟﻜﺜﻴﺮ، وﻗﺪﻣﻮا ﻟﻬﺎ ﻣﺎ ﻳﻤﻜﻨﻬﻢ، وأﺻﺒﺢ اﻟﻀﻤﻴﺮ اﻟﺠﻤﻌﻲ ﻟﻠﺴﻮرﻳﻴﻦ ﻓﻲ ﺗﺮﻛﻴﺎ ﻳﺮى ﻓﻴﻬﺎ اﻟﻮﻃﻦ اﻟﺜﺎﻧﻲ.
العلاقات التاريخية المتجذرة تعني وبطبيعة الحال أنها متجددة وحيّة أيضاً، هذا حالنا في سورية وتركيا، نحن نتشارك الأرض والتاريخ عبر مئات السنين التي مرت على هذه الشراكة، التي سوف تنمو وتبقى إلى ما شاء الله.
علمّنا التاريخ أن الخيارات السياسية التي دعمتها تدخلات غربية، أو تلك التي بنيت على توجهات تمثل جزءاً من الهويّة دون مركبات الهويّة الأخرى، لم تستطع أن تجسّر هذه المساحة والعمق المشترك بكل تجلياته التاريخية والثقافية والروحية، التي انعكست بطبيعة الحال في الميادين الاجتماعية والاقتصادية والأمنية.
فقد عشنا في سورية وتركيا على مدى مئات السنين ضمن كيان حضاري و سياسي واحد، ونتج عن هذا التداخل الواسع والتشابك في كافة النواحي، على طرفي الحدود، ثقافة واحدة متشابهة إلى حد بعيد، مهما تعمقت داخلها، المزاج الشعبي والطعام والموسيقى والأزياء الشائعة؛ ليست إلا تجليات لهذا التاريخ المشترك، وما حلقات التجاذب التي عرفتها العلاقات منذ الحرب العالمية الأولى وحتى اليوم، إلا لأن الحواجز السياسية التي أريد لها أن تغرس بين البلدين؛ فشلت في أن تفصل بينهما على كافة الأصعدة الأخرى، وهي سقطت تماماً أمام اختبار الثورة السورية، التي لم تجد تركيا بدّاً من أن تكون في مكانها الطبيعي ودورها التاريخي إلى جانب الشعب السوري، وأن تستقبل تركيا الدولة داخلها، وتحمي على حدودها، نصف الشعب السوري تقريباً، وهم فقط من استطاع الوصول إليها، ولو كان لبقية السوريين من سبيل إلى هذا الخيار لكانت النسبة أكبر بكثير ، فراراً من مكنة الموت والدمار والبراميل المتفجرة، التي هدّمت منازلهم فوق رؤوسهم.
تتابعت سنوات حرب النظام على الشعب السوري لأكثر من عقد من الزمن، عاش خلالها ملايين اللاجئين السوريين في تركيا، عملوا ودرسوا وتعلموا اللغة، وكثير منهم يعيلون ذويهم في سورية، ووُلد لهم مئات الآلاف من الأطفال السوريين على أرضها، أثّروا في تركيا تأثيراً لا تخطئه العين، وتأثروا بها، أعطتهم الكثير، وقدّموا لها ما يمكنهم، وأصبح الضمير الجمعي للسوريين في تركيا يرى فيها الوطن الثاني، حتى إن بعضهم راح يتصرف ويفكر في تركيا على أنها وطنه، وأن له الحق فيها، فهي تشبه سورية في كل شيء، إلا أنه هناك في بلادهم براميل تلقى على رؤوس الأطفال، وعصابات تخفيهم وتعذبهم حتى الموت، صحيح أنه قد تخلّل هذه السنوات حوادث صغيرة معزولة وأخرى كبيرة منظمة ومغرضة تزامنت مع ضغوط خارجية أو استحقاقات سياسية داخلية، كان الهدف منها ضرب هذه العلاقة لكنها فشلت في كل مرة بفضل التعامل الرسمي الحكيم معها والوعي الكبير الذي أبداه المجتمع، لتمر تلك الموجات دون آثار تذكر ويبقى المشهد الذي يأتي في السياق الطبيعي للتاريخ والجغرافيا.
وحتى اليوم يسعى الكثير من السوريين، للقدوم من دول اللجوء الأخرى إلى تركيا؛ ليكونوا قريبين من وطنهم وقضيتهم، التي لم ينفصلوا عنها.
وتركيا أيضاً وقفت إلى جانب قوى الثورة والمعارضة السورية في ميادين السياسة، وفي حماية ما استطاعت من المدنيين، حين خذلنا العالم، سخّرت تركيا إمكاناتها للتخفيف من المعاناة الإنسانية للملايين الآخرين، الذين التجأوا إلى المناطق المحررة المحاذية لها، وتحملنا معاً أوجه عديدة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية، كل هذا ولّد روابط جديدة، إضافة لتلك التي أسلفنا ذكرها، بل إن هذه الوشائج التي لن تفصم بات لها تجليات لا تخفى على عين.
المناطق المحررة التي بيد الثوار السوريين، والتي تسعى تركيا بقدراتها السياسية والعسكرية إلى تكريسها منطقة آمنة وخالية من الإرهاب، لم تعد مناطق طرفية في سورية، ومهمشة وممر أخطار إرهابية توجه إلى تركيا كما كانت في السابق إبان سيطرة نظام الأسد عليها أو كما أريد لها أن تكون عندما انتزعها إرهاب داعش من يد الثوار وسلمها إلى إرهاب قسد بدعم غربي واسع، بل باتت في قلب الفضاء الجيوسياسي في المنطقة، وهي مؤهلة لتكون صلة الوصل لهذه العلاقة المتجذرة والمتجددة، والرابط الذي يشدّ تركيا إلى سورية، بما يحفظ أمنها من الإرهاب، وطريقها إلى الفضاء العربي الكبير، ويشدّ سورية إلى تركيا، طريقها إلى الفضاء الأوروبي والعالم التركي، وبما يمكّن قوى الثورة والمعارضة السورية، ودعاة المستقبل الحر الكريم للشعب السوري، من بناء مؤسساتهم وحماية حاضنة الثورة، وصولاً إلى الانتقال السياسي، وطي صفحة الاستبداد والديكتاتورية في كامل سورية.
إن مئات آلاف الطلبة في المدارس والجامعات التركية والتجار والعمال والصناعيين سيكونون جسور المستقبل بين الشعبين والبلدين، هذه الأجيال التي تتقن العربية والتركية، تتميز بأنها باتت تعرف مدى وعمق الأخوّة، وستكون ضمانة لأخوّة لن تنفصم مرة أخرى، مهما كاد لها أصحاب النوايا السيئة تجاه هذه المنطقة.
حوض الفرات المترامي على طرفي الحدود، و المدن التي تمثل توائم حقيقية، حلب أخت عنتاب، أورفا والرقة، ماردين والقامشلي والحسكة، تمثّل عقد هذه الروابط الكثيرة التي لا تحصى، هذه المدن وهذا الحوض سيبقى في سورية كما سيبقى في تركيا، ولن تذهب هذه المدن وما تمثله من رابط متين إلى أي مكان، بل إنها ستعود إلى دورها، بعد ما أراد التدخل الخارجي عبر الإرهاب وعبر نظام الأسد فصلها، هذه الأخوّة والتوأمة انعكست عبر التاريخ تداخلاً قومياً وإثنياً واجتماعياً في مركبات الهويّة على طرفي الحدود، أثبت أنه الأبقى، وأن تلك الفترة السيئة مرّت، وأن عمرها كان قصيراً، ولا يمثّل شيئاً أمام عمق وعظمة التاريخ، وحقائق الجغرافيا، واستحقاقات الواقع والمستقبل، واليوم من الواضح أن هذه الحرب أعادت الحياة إلى هذه التوأمة والتوزع الديمغرافي، الذي يأتي في سياقه الطبيعي على جانبي الحدود، فالحلبيون الذين أعادوا حلب إلى عنتاب بشكل واضح، لن يتركوا عنتاب نظرياً في مكانها عندما يعودون إلى حلب سيأخذونها معهم في قلوبهم وفي تجارتهم ولن يضيعوا أو يستصعبوا طريق الذهاب والعودة إليها فهي عادت قريبة جداً منهم كما هي وكما كانت دائماً ، وحتى البعد الجغرافي لم يمنع الشوام (أبناء دمشق) من إعادة دمشق بطعامها وذوقها وبصماتها الجميلة إلى أعرق أحياء استنبول وهم سيعيدون استنبول معهم إلى قلب سورية بكل ثقل وثقة ومفاعيل وعظمة الأقدار والإرادة المشتركة، وهذا ينسحب على باقي التوائم من الريحانية وإدلب إلى القامشلي وماردين، وروابط الزواج وأحياء القرابات القديمة والامتدادات العشائرية التي تعززت في حوض الفرات على جانبي الحدود تعيد قرع أجراس الواقع والتاريخ في وجه الطامعين والحالمين.
فملايين السوريين الذين لجأوا إلى الشقيقة تركيا سوف يحفظون الودّ للجيران والإخوة، الذين وقفوا معهم، والحنين والامتنان، وسوف يحملون حين يعودون إلى وطنهم اللغة وارتباطاً روحياً عميقاً، وسيتركون في تركيا، مع من سيبقى من أبنائهم، وفي الأماكن التي عاشوا فيها؛ البصمات الطيبة والذكريات واللغة العربية التي عادت للانتشار في تركيا، ونحن جميعاً لن نعود مرة أخرى أسيري إرادات سياسية؛ أثبت التاريخ أنها زائلة ومؤقتة.
هذه الوشائج التي أثق كما لو أني أرى المشهد بعيني؛ ستنعكس في المستقبل اقتصاداً متكاملاً متداخلاً يتمثل في طرق حديثة، وسكك حديدية، وشبكات للري عبر الحدود (حتى قبل الثورة السورية عرضت وفي تصريح شهير لرئيس وزراء تركيا في ذلك الوقت، أن لديهم الرغبة والاستعداد، بأن تشمل شبكة الري ضمن مشروع الـ GAP إقليم الجزيرة السوري، ولم يقبل نظام الأسد ذلك حينها، رغم حاجة المنطقة الماسة لذلك).
فمنطقة حوض الفرات مثلاً تشكل بكل المعايير نموذجاً ممتازاً للتخطيط الإقليمي المتكامل.
وهكذا بعد أن يكمّل الاقتصاد والأمن روابط التاريخ والثقافة، لن يعود بمقدور السياسة أن تفرق بيننا مرة أخرى.
بالطبع لن يكون الطريق إلى ذلك المستقبل مفروشاً بالأزهار بل أن هناك تحديات كبيرة ستعترض الطريق ولن تكف الأطراف الكبرى التي لا تريد الخير لنا ولا أدواتها الصغيرة من محاولة تعطيل وإيقاف هذا المستقبل لكنه سيأتي بفضل الدروس والتحديات التي مرت والتي علمتنا الكثير ولأننا لن نترك مصيرنا مرة أخرى لعبث العابثين، والحدود التي أريد لها أن تكون حدوداً من نار تحاصر تركيا وسورية وتفصلهما عن بعضهما، ستكون إن شاء الله واحة من خير ونور وحصناً منيعاً للإخوة والمصير المشترك.
هذا ليس حلماً، إنه قدر وإرادة من يتشاركون الأرض والتاريخ، وسوف يتشاركون المستقبل.
المصدر: أورسام