سلوى أكسوي | عضو الهيئة السياسية في الائتلاف الوطني السوري
يعد ملف المعتقلين في سورية من أعقد وأصعب الملفات التي واجهت وما زالت تواجه السوريين والعالم على حد سواء. وبالمعتقلين هنا لا نقصد من أقدموا على فعل إجرامي يستحقون فيه العقاب، بل نقصد كل من ألقي القبض عليه دون سبب واضح وفي ظروف غامضة وغير قانونية ومن ثم تلفيق تُهم بحقهم دون أن يحظوا بمحاكمة عادلة.
لا نبالغ لو قلنا إنه لا توجد عائلة سورية لم يتعرض أحد أعضائها للاعتقال المؤقت أو الدائم أو حتى الإخفاء القسري والقتل تحت التعذيب، لذلك هذه القضية تمسّ كل سوري بغضّ النظر عن مدينته أو مجتمعه أو عمره أو حتى جنسه.
أحاول من خلال هذه السطور طرح توصيف أقرب ما يكون للدقيق حول الاعتقال والمعتقلين في سورية، فوضوح الطريق يجعل الوصول للهدف أيسر وأكثر سرعة.
الاعتقال في سورية
حافظ الأسد الذي وصل لسدة الحكم عبر انقلاب عسكري عام 1971 اعتمد ومنذ اليوم الأول على سياسة الاعتقال كأداة أساسية للبقاء في الحكم وتوريثه ضمن العائلة، وما ساعده ومكنه من سياسة الاعتقال هذه هو الأساسات التي قام عليها حكمه، ففي عام 1966 أسس حزب البعث مكتب الأمن القومي والذي يشكل مظلة تعمل تحتها كل من إدارة الأمن السياسي وإدارة المخابرات العامة وشعبة المخابرات العسكرية وإدارة المخابرات الجوية وغيرها من الأفرع السرية وغير السرية. كما أن المنتسبين لهذه الأفرع يتمتعون بحصانة يضمنها لهم القانون، وهكذا فالقوانين التي قام عليها حزب البعث وعائلة الأسد تضمن لهم أصلاً إطلاق أيديهم في الاعتقالات التعسفية والإخفاء القسري دون أي مساءلة. إذاً فالاعتقال هو أحد أهم أدوات البقاء في السلطة لكل الأنظمة الوحشية سواء في سورية أو أي دولة دكتاتورية أخرى.
والاعتقال التعسفي الواسع يحقق ضمان البقاء في السلطة عن طريق إرهاب المواطن بشدة وبكل وحشية حتى لا يجرؤ على الخروج ضد الحاكم أو حتى أن يتفوه بأي رأي، ناهيك عن أي تصرف مهما كان صغيراً.
الاعتقال التعسفي هو أفضل وسيلة للتخلص من أصحاب الرأي والإصلاح لأن هؤلاء هم بمثابة تهديد دائم للسلطة، لذلك فإن بقاءهم في الاعتقال وحتى قتلهم وإخفاءهم قسرياً هو أضمن وأسرع طريق للتخلص منهم ومن أمثالهم ليصبحوا عبرة للباقين.
فالواضح أن سياسة الاعتقال لم تبدأ مع عام 2011، لأنها ببساطة وسيلة بقاء بالنسبة لنظام الأسد، ولن تنتهي إلا مع زوال النظام (ولنضع خطين تحت هذه الجملة)، فهذه هي أهم نقطة في هذا الملف، والمطالبة بفصل موضوع المعتقلين عن السياسة وجعله ملفاً إنسانياً فقط هو مطلب عادل لكنه غير واقعي، فالطرف المقابل يهدف أصلاً إلى محو صفة الإنسانية عن مواطنيه، والقضاء على أي مشاعر مرتبطة بذلك كالكرامة والسعادة والفخر، والأسوأ من كل ذلك هو أن الدلائل على ذلك شاهدها العالم كله، وما ملفات “قيصر” وصور الشهداء تحت التعذيب وفيديو إعدام المدنيين على يد عصابات الأسد في حي التضامن إلا الظاهر فقط، وما خفي أعظم.
النظام في سورية جعل الاعتقال وظروفه أمراً معقداً جداً حتى إن الحصول على معلومات أكيدة حول عدد المعتقلين أو المغيبين قسرياً أو الشهداء تحت التعذيب أمر يكاد يكون مستحيلاً.
شدة الخوف والإرهاب الذي تتعرض له عائلات المعتقلين وذويهم يمنع معظمهم من التحدث، فأجهزة مخابرات نظام الأسد دمرت عامل الثقة بين الأخ وأخيه في سورية. الدول التي تزعم أنها صديقة للشعب السوري وأنها على اهتمام مباشر بهذا الملف، غالباً ما تطرح أسئلة حول عدد المعتقلين وتتهم الثوار والمعارضين بأنهم لا يملكون أعداداً واضحة للمعتقلين. وكأن هذه الدول لا علم لها بواقع الاعتقال وتاريخه في سورية وصعوبة التوصل لمعلومة واضحة وأكيدة.
لكن هناك مؤسسات سورية تعمل من أجل الوصول لبعض الحقيقة الصعبة مثل الشبكة السورية لحقوق الإنسان التي أسهمت في تقرير أصدرته المفوضية السامية لحقوق الإنسان في حزيران/يونيو من هذا العام أشارت فيه إلى أنه ما لا يقل عن 306.887 مدنياً قتلوا منذ انطلاق الحراك الشعبي في سورية من آذار/ 2011 حتى 31/ آذار/ 2021 بينهم 27.126 طفلاً و26.727 أنثى، كما أن عدد من ما زالوا تحت الاعتقال التعسفي هم أكثر من 132 ألف سوري في سجون نظام الأسد. هذه أرقام دقيقة بمعنى أن جميعها موثقة حسب المعايير القانونية، لكنها بعيدة جداً عن الواقع بسبب صعوبة التواصل مع ذوي المعتقلين ورفض الكثير منهم الإدلاء بأي معلومات حول المعتقلين خوفاً عليهم.
الطريق نحو الهدف
من العدل أن نتذكر هنا ونذكّر أهلنا بصعوبة هذا الملف بسبب ارتباطه ارتباطاً وثيقاً بقضية وجودية بالنسبة لنظام الأسد، وأننا هنا نتعامل مع أسلوب حكم لم يتغير منذ أكثر من خمسين عاماً وأن كل الحديث حول “إنسانية” الملف وربطه بحقوق الإنسان لن تصل بنا إلى بر الأمان، فلا قيمة للإنسان لدى الأنظمة القمعية، والمجتمع الدولي يعلم ذلك جيداً وهو يغضّ الطرف عن هذه التجاوزات.
السوريون هم أصحاب القضية ولن يتحرك أحد باسمهم ودفاعاً عن ذويهم من المعتقلين. المطالبات يجب أن تكون بأعلى صوت وبأكبر عدد، وعلى كل الأصعدة. وعلينا أن ننتبه من محاولات تبسيط الملف كأن تكون المطالبة بكشف المصير فقط أو بالتواصل مع المعتقلين أو بتحسين ظروف المعتقلين فقط. القضية عليها أن تتحول إلى قضية دولية يجتمع فيها ضحايا كل الأنظمة القمعية في هذا العالم.
ملف المعتقلين في سورية يحتاج لتحرك القاعدة الشعبية وليس السياسية فقط، لأنها قضية تمس كل عائلة سورية، وللاجئين السوريين في مختلف دول العالم الدور الأبرز في رفع صوتهم وتعريف شعوب العالم بواقع الحياة تحت حكم عصابة الأسد.
نهاية، لن نتنازل أبداً عن حق أي معتقل بريء، وسيبقى المعتقلون السوريون على قائمة أولوياتنا وعلى كل طاولة، ومحور كل لقاء أو اجتماع. الطريق طويلة ونحن عازمون.