24.9 C
Damascus
الثلاثاء, سبتمبر 24, 2024

رأي | المؤثرون.. تسطيح الثقافة وزيف التأثير

كرم داروخ

في السنوات الأخيرة، برزت ظاهرة “المؤثرين” كواحدة من أبرز الظواهر الاجتماعية الرقمية التي لا يمكن تجاهلها، لكن عندما نتمعن في طريقة عملهم وتأثيرهم على المجتمع، نكتشف أن الصورة الوردية التي يُرسمون بها بعيدة كل البعد عن الحقيقة، فهؤلاء -المؤثرين- لا يؤثرون بشكل إيجابي على الناس كما قد يبدو، بل غالباً ما يساهمون في تسطيح الثقافة وزرع قيم مادية وسطحية.

تسطيح القيم والثقافة

لم يعد خافياً على أحد أن المحتوى الذي يقدمه معظم من يسمون أنفسهم مؤثرين يعتمد بشكل كبير على الاستهلاك والاستعراض المادي، نراهم يعرضون المنتجات الفاخرة، يسافرون إلى وجهات خلابة، ويعيشون حياة تبدو مثالية في كل تفاصيلها، في خضم هذا العرض المستمر تتحول الرسائل التي يبثونها إلى دعوات مبطنة للانغماس في المظاهر المادية والبحث عن السعادة في الأشياء الملموسة.
في هذه البيئة، تذوب القيم الإنسانية العميقة، وتتحول الحياة إلى سباق محموم نحو الكمال الزائف، كأنما تُفرض علينا فكرة أن السعادة تكمن في امتلاك آخر صيحات الموضة أو السفر إلى الوجهة الأغلى، دون أي اعتبار للقيم الأخلاقية أو الروحية.
تبدو كلمة “مؤثر” بحد ذاتها خادعة، إذ توحي بقوة قادرة على إحداث تغيير إيجابي في المجتمع، ولكن هل حقاً يُحدث هؤلاء المؤثرون تغييراً؟ أغلبهم للأسف، يساهمون في تعزيز ثقافة سطحية بدلاً من تعميق الوعي أو تحفيز الناس على التفكير النقدي، تأثيرهم يظل محصوراً في دائرة الاستهلاك، حيث يروجون للعلامات التجارية والمنتجات، متناسين أن التأثير الحقيقي يكمن في إلهام العقول ودفعها نحو التغيير الإيجابي.

بصيص من الأمل

رغم هذه الصورة القاتمة، لا يمكن إنكار وجود بعض المؤثرين الذين يكسرون هذه القاعدة تماماً، ويسعون جاهدين لتقديم محتوى هادف يجمع بين الظرافة والفائدة. هؤلاء يركزون على تقديم رسائل إيجابية، سواء من خلال نشر المعرفة، أو دعم القضايا الاجتماعية، أو حتى تشجيع الناس على تطوير ذواتهم، هؤلاء المؤثرون يمثلون الجانب المشرق في هذا العالم الافتراضي، ويقدمون لنا نموذجاً حقيقياً عما يمكن أن يكون عليه التأثير الإيجابي.

ما وراء الصورة اللامعة

لكن، خلف كل هذه الصور اللامعة والمنشورات المبهرة، علينا أن نتساءل: هل هذا هو الشكل الوحيد للتأثير؟ هل نحتاج حقاً إلى هذا الكم الهائل من الاستعراض؟ ربما يكون الوقت قد حان لإعادة التفكير في مفهوم “التأثير” نفسه، فالتأثير ليس بعدد المتابعين أو بالإعلانات المدفوعة، بل بمدى عمق الرسالة التي تُقدم، وبقدرتها على إحداث فرق في حياة الآخرين.
على المتابعين أيضاً أن يدركوا أن الحياة ليست مجرد شاشة تعرض كل ما هو براق. السعادة الحقيقية لا تأتي من متابعة حياة الآخرين، بل من بناء حياة ذات معنى وقيمة.

الكواليس: هذه ليست دبي …بل إنها إدلب

في مشهد مؤلم ولكنه واقعي، نجد أن ظاهرة “المؤثرين” لم تقتصر على المجتمعات المترفة أو المدن الكبرى، بل امتدت حتى إلى مناطق تعيش أوضاعاً صعبة مثل الشمال السوري وسط معاناة مستمرة من الحرب والدمار والتهجير، يظهر بعض المؤثرين المحليين وهم يعرضون حياة تبدو وكأنها مأخوذة من مدينة عالمية كبرى تجدهم يصورون المولات الفارهة والأسواق المكتظة بالمنتجات الفاخرة، ويروجون لمطاعم تقدم أشهى الأطباق وكأنها في قلب دبي، بينما الواقع في إدلب وما حولها يروي قصة مختلفة تماماً.
المفارقة هنا أن هذه الصور، التي تُظهر سيارات فارهة تجوب شوارع لا تصلح حتى لمرور عربة، تُعطي انطباعاً مزيفاً عن طبيعة الحياة في المنطقة متجاهلين الظروف المعيشية الصعبة التي يواجهها غالبية السكان هذا الانفصال عن الواقع لا يعكس حقيقة معاناة الناس ولا يسهم في إظهار الصورة الحقيقية عن أوضاعهم، بل يزيد من الشعور بالفجوة بين ما يُعرض على الشاشات وما يعيشه الناس فعلياً.
في هذه الحالة، يتحول التأثير من كونه مصدر إلهام أو دعم معنوي إلى وسيلة لخلق وهمٍ غير واقعي، يزيد من تعقيد الصورة ويعمق من إحساس الأفراد بالغربة داخل أوطانهم.
في النهاية، يبقى السؤال الأهم: هل نريد أن نكون مجرد مستهلكين للمحتوى السطحي، أم نطمح إلى ما هو أعمق؟ المؤثرون الحقيقيون هم أولئك الذين لا يكتفون بإلهامنا بما يلبسون أو أين يسافرون، بل بما يساهمون به من أفكار ومعرفة الاختيار بين التسطيح والزيف، وبين القيم الحقيقية والمحتوى الهادف، يبقى بأيدينا وكما قال أحد الحكماء: “الإنسان يُقاس بما يعطي، وليس بما يمتلك”.
فهل نختار أن نكون جزءاً من هذا الاستعراض المستمر، أم نطمح إلى أن نكون مؤثرين حقيقيين، في حياتنا وحياة من حولنا؟

أخبار ذات صلة

آخر الأخبار