يكشف تحقيق استقصائي لـ”الوحدة السورية للصحافة الاستقصائية – سراج” عن أسلوب عقابي اتبعته “أجهزة الأمن السورية” بعد اعتقال الأطفال. إذ يتم احتجازهم من دون محاكمة حتى بلوغهم السن القانونية (18 عاماً)، ليتم عندها تحويلهم إلى محاكم الميدان العسكري.
كما اعتمد نظام الأسد أساليب غير قانونية لإصدار أحكام الإعدام بحق المعتقلين الأطفال استناداً إلى قانون مكافحة الإرهاب (رقم 19 لعام 2012).
عبّر فريق من الصحافيين الاستقصائيين والباحثين، تمكن فريق التحقيق من تأكيد وفاة 24 شخصاً من أصل 25 وردت أسماؤهم في قائمة تضم حصراً أطفالاً لم يتجاوزوا سن الثامنة عشرة عند اعتقالهم (18 طفلاً من حماة، 3 أطفال من حمص، طفلان من إدلب، وطفل واحد من كل من حلب ودرعا)، بعدما أصدرت محاكم الميدان العسكري أحكاماً بإعدامهم.
حصل فريق التحقيق على قائمة تضمّنت المعلومات الشخصية الكاملة لكل طفل، بما في ذلك الاسم الثلاثي، واسم الأم وكنيتها، وتاريخ ومكان الميلاد، وتاريخ إصدار الحكم بالإعدام، والرقم الوطني. فيما لم تحدد القائمة ما إذا كانت الأحكام قد نُفذت أم لا.
كيف تتم محاكمة الأحداث قانونياً؟
أيضاً، تمكن الفريق من الوصول إلى الناجي الوحيد وهو الطفل (سارية)، والحصول على وثائق تثبت محاكمته أمام محكمة الميدان العسكرية، إلى جانب توثيق شهادته وشهادات عائلات ضحايا آخرين يسرد التحقيق بعضها.
حالة سارية ما هي إلا واحدة من حالات عشرات الأطفال السوريين الذين اعتقلوا وحولوا إلى محاكم الميدان العسكرية، ثم أعدموا بعد بلوغهم السن القانونية، ما يكشف عن منهجية خفية اتبعتها “أجهزة الأمن السورية” منذ اندلاع الاحتجاجات في آذار/ مارس 2011، بتحويل الأطفال المعتقلين إلى محاكم الميدان العسكرية في دمشق بعد إيداعهم من دون قيود، وطي ملفاتهم في الأفرع الأمنية بانتظار بلوغهم السن القانونية، بما يسمح بإعدامهم وفق القانون السوري.
وبحسب المسؤول القانوني ﻓﻲ وﺣدة اﻟدﻋم في البرنامج السوري للتطوير القانوني (SLDP)، المحامي مهند شراباتي، فإن “إحالة الموقوفين إلى محاكم الميدان العسكري تعكس بوضوح غياب سيادة القانون في سورية. إذ إنَّ السلطة التنفيذية، الممثلة برأس النظام، تهيمن بشكل كامل على السلطتين التشريعية والقضائية، ما يؤدي إلى تطبيق قوانين استثنائية ومحاكم لا تلتزم بالمعايير القانونية الدولية، مثل محاكم الميدان العسكرية”.
وكشف لفريق التحقيق مصدر كان قد أمضى ثلاث سنوات من خدمته العسكرية الإلزامية في صفوف الشرطة العسكرية المسؤولة عن مهام نقل المعتقلين وملفاتهم والبريد من “المربع الأمني” في حي كفرسوسة بدمشق إلى سجن صيدنايا وأماكن أخرى، عن أنه عاصر أكثر من ستة آلاف حالة لمعتقلين دون السن القانونية (18 عاماً) صدرت بحقهم أحكام بالإعدام.
ما هي المربعات الأمنيّة ؟
وأوضح المصدر الذي طلب عدم الكشف عن هويته لأسباب أمنية، أنه “بين العام 2014 وحتى نهاية العام 2017، وهي الفترة التي خدمت خلالها في الشرطة العسكرية بدمشق، كانت من ضمن مهامنا كـ”شرطة عسكرية” تابعة لـ”وزارة الدفاع” نقل المعتقلين وملفاتهم والبريد من المربع الأمني في دمشق إلى سجن صيدنايا ومحكمة الديماس [واحدة من محاكم الميدان العسكري]، وكذلك من صيدنايا إلى الديماس ذهاباً وإياباً. في هذه الفترة، كانت حالات الإعدام في أعلى مستوياتها تقريباً.
وخلالها، شاهدت ونقلت أكثر من 6,000 معتقل تم جلبهم إلى المربع الأمني في دمشق، وهم في سن 15 إلى 17 عاماً”.
“خلال فترة وجودهم في هذا المربع أصبحوا في سن 18 و19 عاماً. بعدها حكم عليهم بالإعدام من قبل محكمة الميدان”، كما أضاف المصدر ذاته. و”هذا العدد يمثّل فقط ما شاهدته خلال فترة عملي، دون احتساب الأفراد الآخرين من الشرطة العسكرية المكلفين بأعمال مماثلة”.
اعتقال الأطفال والحكم عليهم لاحقاً بالإعدام كانا خلال فترة ترؤس القاضي محمد كنجو حسن محكمة الميدان العسكري، والتي امتدت من كانون الأول/ ديسمبر 2013 وحتى كانون الثاني/ يناير 2023.
قتل بالقانون!
وصف البرنامج السوري للتطوير القانوني محاكم الميدان العسكري بأنها “تتجاوز المعايير الدولية للمحاكمات العادلة. فهي لا تلتزم بمبادئ الشفافية والاستقلالية، وتصدر أحكامها من دون مراعاة لمبادئ المحاكمة العادلة المنصو”.
يتم تنفيذ عمليات الإعدام استناداً الى أحكام قانون العقوبات السوري العام (رقم 48 لعام 1949)، وعملاً بقانون أصول المحاكمات الجزائية السوري (رقم 112 لعام 1950)، وكذلك قانون مكافحة الإرهاب (رقم 19 لعام 2012)
لكن لا يوجد أي أساس قانوني لاحتجاز الأطفال في السجون السورية من دون محاكمة حتى بلوغهم السن القانونية لتحويلهم إلى محكمة الميدان العسكري وتنفيذ أحكام الإعدام بحقهم، كما شدد المحامي مهند شراباتي، إذ “يحظر القانون الدولي فرض عقوبة الإعدام أو السجن مدى الحياة على الأشخاص الذين تقل أعمارهم عن الـ18 سنة.
والقانون السوري يلتزم بهذا الحظر، ولا ينص على عقوبة الإعدام أو السجن مدى الحياة في الجرائم التي يرتكبها الأحداث”.
وقالت “الهيئة السورية للمعتقلين”، إنَّ المحاكم الميدانية كانت استثنائية، حيث لا يوجد بها أي ضمانات دستورية ولا يحق للمتهم الماثل أمامها تقديم أي دفوع أو توكيل محام أو مراجعة أي قرار أو حكم يصدر عنها إضافة إلى سريتها.
واعتبرت الهيئة أن هذه المحاكمات كانت “إحدى الأدوات التي مارس بها النظام القتل منذ بداية حكمه واستخدمها لإبادة أي صوت معارض له، كما كانت إحدى آليات الترهيب التي نشطت منذ بداية الثورة والتي ارتبط اسمها بسجن صيدنايا العسكري سيئ الصيت”.
ووثّق تقرير للشبكة السورية لحقوق الإنسان، صادر في 12 أيلول/ سبتمبر الماضي، إصدار المحاكم الميدانية 14,843 حكم إعدام، منذ آذار/ مارس 2011 وحتى آب/ أغسطس 2023. ومن بين المحكومين 114 طفلاً و26 سيدة. وقد نفذت عقوبة الإعدام بحق 7,872 شخصاً، من بينهم 2,021 شخصاً من العسكريين، ولم تُسلم جثامينهم لذويهم، ولم يتم إخطارهم بإعدامهم بشكل رسمي.
55 عاماً من المحاكمات الصوريّة
تعود جذور محاكم الميدان العسكرية في سورية إلى الفترة التي أعقبت حرب حزيران/ يونيو 1967 ضد إسرائيل، وتحديداً إلى العام 1968 حين أُنشئت باعتبارها متخصصة بالنظر في الجرائم الداخلة في اختصاص المحاكم العسكرية والمحالة إليها بقرار من “القائد العام للجيش والقوات المسلحة (رئيس الجمهورية) والمرتكبة زمن الحرب والعمليات الحربية”.
وتشكل محكمة الميدان بقرار من “وزير الدفاع”، وتتألف من رئيس وعضوين عسكريين، بحيث لا تقل رتبة الرئيس فيها عن رائد، فيما لا تقل رتبة كل من العضوين عن نقيب.
وقد منح المرسوم 109 لعام 1968 هذه المحاكم صلاحيات واسعة، بما في ذلك عدم التقيد بالإجراءات القانونية التقليدية التي تضمن عدالة المحاكمة، وعدم قبول أحكامها للطعن.
ومنذ العام 1980، في عهد المجرم حافظ الأسد، توسع نطاق صلاحيات هذه المحاكم ليشمل المدنيين، ما زاد بالتالي من عدد ضحاياها. إذ لعبت على مدار أكثر من 55 عاماً، دوراً محورياً في إصدار أحكام الإعدام والإخفاء القسري، ولا سيما عقب اندلاع الاحتجاجات الشعبية في 2011، بحيث صارت هذه المحاكم “رمزاً للقمع والخوف، تركت وراءها أرشيفاً مليئاً بالجرائم والانتهاكات”، بحسب تقرير لمنظمة العفو الدولية.
وقالت المنظمة إنَّ المحاكم الميدانية تعمل “خارج نطاق قواعد وأصول النظام القانوني السوري”. ونقلت عن قاضٍ سابق فيها قوله: “يسأل القاضي عن اسم المحتجز، وعما إذا كان قد ارتكب الجريمة أم لا. وستتم إدانة المحتجز بصرف النظر عن إجابته”.
وأضافت المنظمة: “يخضع المحتجزون قبل إعدامهم لإجراءات قضائية صورية لا تستغرق أكثر من دقيقة واحدة أو اثنتين… وتتصف هذه الإجراءات بأنها من الإيجاز والتعسف بحيث يستحيل معهما أن يتم اعتبارها إجراءات قضائية معتادة”، كما وُصفت الإجراءات بـ”مهزلة… تنتهي بإعدام المحتجزين شنقاً”.
وبحسب مصدر عمل في القضاء العسكري، فإن محاكم الميدان العسكري تصدر أحكاماً جماعية وغيابية من دون الاعتماد على لوائح تهم أو قراءة محاضر التحقيق. إذ تستند الأحكام إلى الضبوط المنظمة من رجال الأمن والاعترافات المنتزعة تحت التعذيب في الأفرع الأمنية أو توصيات اللجنة الخماسية. ومن ثم، يُساق المعتقلون من المربع الأمني في دمشق (منطقة كفرسوسة) باتجاه الإيداع، بينما تسبقهم ملفاتهم إلى محاكم الميدان العسكري.
الدقائق الأخيرة قبل عمليات الإعدام
في شهادة حول عمليات الإعدام الميدانية في سورية، نقلت منظمات حقوقية عن حارس سابق في سجن صيدنايا قوله إنه تم إعدام ما يصل إلى 13,000 شخص شنقاً في سجن صيدنايا بين سبتمبر/ أيلول 2011 وديسمبر/ كانون الأول 2015. قبل صدور الحكم بالإعدام، يواجه الضحايا ما تسميه “السلطات السورية” “محاكمة” أمام محكمة الميدان العسكرية. في الواقع، لا تتجاوز هذه المحاكمة مدة دقيقة أو دقيقتين، تُعقد في مكتب أمام ضابط عسكري، حيث يتم تسجيل اسم المعتقل في سجل الموت.
في يوم الإعدام، الذي يسميه حراس السجن بـ”الحفلة”، يتم جمع أولئك الذين سيُعدمون من زنازينهم في فترة ما بعد الظهر. يتم إخبار المعتقلين بأنهم سينقلون إلى أحد السجون المدنية، والتي يعتقد الكثيرون أن ظروفها أفضل. لكن بدلاً من ذلك، يتم اقتيادهم إلى زنزانة في قبو المبنى، حيث يتعرضون للضرب المبرح، وبعدها يتم نقلهم إلى غرفة الإعدام.
نحو الساعة الثالثة صباحاً، يصل أعضاء لجنة الإعدام من خارج سجن صيدنايا لحضور عمليات الإعدام، ومن بين أعضاء لجنة الإعدام الذين يحضرون بانتظام الإعدامات كل من مدير سجن صيدنايا، المدعي العسكري في محكمة الميدان العسكري، ممثل عن أجهزة المخابرات – عادةً من المخابرات العسكرية، قائد اللواء في الجبهة الجنوبية، ضابط من الخدمات الطبية العسكرية في مستشفى تشرين، والطبيب الرئيسي في سجن صيدنايا. عادةً ما يرافق كل عضو من أعضاء اللجنة مساعد أو اثنان أو حراس شخصيون.
حتى اليوم، لا يزال يتم نقل المعتقلين إلى سجن صيدنايا، وتستمر “المحاكمات” في محكمة الميدان العسكري في القابون. لذلك، لا يوجد سبب للاعتقاد بأن عمليات الإعدام قد توقفت.
وقال المحامي محمد عثمان: “احتجاز القاصرين في السجون السورية وتحويلهم إلى محاكم الميدان العسكري، حيث يُحكم عليهم بالإعدام بعد بلوغهم، يكشفان عن انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان والقانون الدولي والسوري. هذه الممارسات تعكس غياب العدالة والمحاسبة في النظام القضائي السوري، ما يستدعي تحركاً دولياً عاجلاً لمحاسبة المسؤولين وضمان حماية حقوق الأطفال”، لافتاً إلى أنه “تبقى قصص هؤلاء القاصرين شاهداً مؤلماً على واقع قاتم يتطلب جهوداً حثيثة، لتحقيق العدالة وإنهاء هذه الانتهاكات المستمرة”.