إن المتأمل في آيات القرآن الكريم، والمتفحص لمعانيه في مفرداته وجمله وحركاته، والباحث في سياق ارتباط معانيه يقف عاجزاً أمام قدرة عظيمة، وأمام لغة عالية، وكلام رفيع بليغ. هذا القرآن – أيها الكرام – الذي تحدّى جميع الخلق بأن يأتوا بمثله أو بعشر سور مثله أو بسورة واحدة، وتحداهم في غير مرة، وأكد لهم أنهم لن يستطيعوا بأن يأتوا بمثل هذا القرآن حتى لو اجتمعت الإنس والجن.
كتاب التعبير القرآني للدكتور “فاضل السامرائي” بَحث ونقّب في دقة وجمال تعبير آيات القرآن الكريم، حيث شمل كتابه: مقدمة، التعبير القرآني، البنية في التعبير القرآني، التقديم والتأخير، الذكر والحذف، التوكيد في القرآن الكريم، التشابه والاختلاف، فواصل الآي، السمة التعبيرية للسياق، الحشد الفني في القصص القرآني، قصة سيدنا آدم، قصة سيدنا موسى، تفسير سورة التين.
المقدمة، التعبير القرآني، البنية في التعبير القرآني
تحدث المؤلف في المقدمة عن بداياته مع التعبير القرآني، موضحاً أنه عندما كان يسمع الكلام حول معجزة القرآن، وأنه أعلى الكلام يظن أن ذلك مبالغ فيه، بعد ذلك يقول مع مرور الزمن، وبعد الاطلاع على كتب في اللغة والتفسير والبلاغة، بدأت تصديق تلك الأقوال، ثم يشير إلى جهوده في دراسة النص القرآني.
وتحت عنوان “التعبير القرآني” (الصفحة 11)، تحدث عن تحدي القرآن الكريم الناس بأن يأتوا بمثله أو بسورة مستشهداً بالآيات في هذا السياق، ثم تابع في الحديث عن إعجاز القرآن، حيث قال: “إن التعبير القرآني تعبير فني مقصود، كل لفظة بل كل حرف فيه وضع وضعاً فنياً مقصوداً، ولم تُراعَ في هذا الموضع الآية وحدها ولا السورة وحدها بل رُوعيَ في هذا الموضع التعبير القرآني كله”. كما أشار إلى دقة استخدام الألفاظ وبحساب دقيق، على سبيل المثال أن كلمة “الدنيا” تكررت بقدر كلمة “الآخرة” 115 مرة، وكذلك “الموت” و”الحياة” تكرّرتا كل واحدة 145 مرة. فتامّل دقة إعجاز هذا القرآن العظيم.
أما البنية في التعبير القرآني فإنه تطرق إلى ذكر استعمال القرآن بنية الكلمة استعمالاً في غاية الدقة والجمال، من ذلك دقة استعمال الفعل والاسم، فالأول يدل على الحدوث والتجديد، والثاني يدل على الثبوت، كقوله تعالى: (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ). (الأنعام)
لاحظوا دقة استعمال الفعل مع الحي “يخرج”، واستعمال الاسم مع الميت “مخرج”، وذلك لأن أبرز صفات الحي الحركة والتجديد، ولأن الميت في حالة همود وسكون وثبات جاء بالصيغة الاسمية.
التقديم والتأخير، الذكر والحذف، التوكيد في القرآن الكريم، التشابه والاختلاف
في التقديم والتأخير قسّم المؤلف العمل إلى قسمين، الأول: تقديم اللفظ على عامله، كـ (تقديم المفعول به على فعله، والخبر على المبتدأ، والحال على فعله، والظرف والجار والمجرور على فعلهما)، وهو في الغالب غرضه يفيد الاختصاص، وكثر استعماله في القرآن الكريم، كقوله تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ). (الفاتحة)، حيث قدم المفعول به “إياك” على فعل العبادة وفعل الاستعانة دون فعل الهداية لأن العبادة والاستعانة مختصان بالله تعالى. والقسم الثاني: تقديم الألفاظ بعضها على بعض في غير العامل لأسباب عديدة يقتضيها المقام وسياق القول.
وفي موضوع الذكر والحذف، استعرض المؤلف ما حُذف وأصله أن يذكر، كحذف حرف أو فعل أو اسم، وقد يجتزئ بالحركة للدلالة على المحذوف، وكذلك يدخل في هذا الموضوع ما ذكر في موطن ولم يذكر في موطن آخر، وذلك لغرض بلاغي يظهر فيه غاية الفن والجمال والإبداع، وقد ذكر المؤلف شواهد قرآنية، صور فيها دقة وجمالية هذا القرآن العظيم.
أما التوكيد في القرآن الكريم فإنه من المعلوم أنه قد يؤتى بالألفاظ المؤكدة بحسب السياق والحاجة إليها، وقد راعى القرآن الكريم هذا الأسلوب أدق المراعاة في جميع ما ورد من مواطن التوكيد، فهو في غاية الدقة غي اختيار الألفاظ المؤكدة في وضعها في الموضع المناسب بطريقة فنية متقنة، بحسب ما ذكر المؤلف في تمهيده لهذا الأسلوب.
وكذلك التشابه والاختلاف، فقد وردت آيات تتشابه مع تعبيرات أخرى، ولا تختلف عنها إلا في مواطن ضئيلة، كأن يكون الاختلاف في حرف أو كلمة أو في نحو ذلك، وعند تأمل ذلك التشابه والاختلاف تجده أمراً مقصوداً في كل جزئية من جزئياته قائماً على أعلى درجات البلاغة والإعجاز، ومن ذلك استعمال لفظ “مكة” في سورة الفتح، واستعمل “بكة” في سورة آل عمران، والسبب في إيرادها بالباء أن الآية في سياق القرآن، فجاء الاسم “بكة” من لفظ “البَكَّ” الدال على الزحام لأنه في الحج يبك الناس بعضهم بعضاً، أي: يزحم بعضهم بعضاً، وسميت “بكة” لأنهم يزدحمون فيه، وليس السياق كذلك في آية الفتح فجاء بالاسم المشهور.
فواصل الآي، السمة التعبيرية للسياق، الحشد الفني في القصص القرآني
من الملاحظ أن القرآن الكريم يُعنى بانسجام نهاية الآيات بفواصل منسجمة موسيقياً بعضها مع بعض، لما ذلك من تأثير كبير على السمع ووقع مؤثر في النفس، فقد نرى أنه مرة يقدم كلمة ومرة يؤخرها انسجاماً مع فواصل الآيات، مثال ذلك قوله تعالى: (قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ). (الشعراء)، بتقديم “موسى” على “هارون” فيجعل كلمة “هارون” نهاية الفاصلة انسجاماً مع الفواصل السابقة واللاحقة، وفي قوله تعالى في سورة (طه): (قَالُوا آمَنَّا برَبّ هَارُون وَمُوسَى)، حيث جعل “موسى” نهاية الفاصلة لأن الألف فيها هي التي تناسب فواصل الآي في سورة طه، وهكذا يضرب المؤلف شواهد عديدة ويوضح دقة القرآن الكريم.
وقد تكون للسياق الذي ترد فيه الآية سمة تعبيرية خاصة، فترد فيه ألفاظ معينة بحسب تلك السمة، في حين قد يكون للسورة كلها جو خاص وسمة خاصة، وهذا واضح في القرآن الكريم، إذ كثيراً ما نرى تعبيرين يتشابهان إلا في لفظ واحد، وعند النظر في التشابه نجد أن كل لفظة اختيرت بحسب السمة التعبيرية للسياق، هذا ما قاله المؤلف تحت عنوان: “السمة التعبيرية للسياق”، مستشهداً بأمثلة كثيرة من القرآن الكريم، موضحاً دقة استعمال كل لفظة في سياقها.
وعن الحشد الفني، بيّن المؤلف أنه قد يراعى في اختيار التعبير أمور عديدة وجوانب كثيرة، فقد يراعى السياق الذي ورد فيه التعبير، والسورة التي ورد فيها السياق، والسياقات الأخرى التي فيها مواطن تعبيرية متشابهة أو مختلفة، ويقول: “إن القرآن كله حشد فني عظيم متكامل.. فهو قد يراعي في تعبير السورة الواحدة وبنائها تعبير جميع السور الأخرى من القرآن الكريم وبناءها”. وقد وضح المؤلف ذلك بأمثلة من سورة الأنعام حيث قصر الكلام على بيان قسم من العلاقات الفنية التي يراعيها القرآن في السورة نفسها أو السور الأخرى.
الحشد الفني في القصص القرآني
القصة في القرآن الكريم لها أكثر من عبرة وأكثر من جانب استشهاد، نرى أن القصة الواحدة تكرر في أكثر من موطن، والحقيقة أنها لا تتكرر ولكن يعرض في كل موطن جانب منها بحسب ما يقتضيه السياق.
يذكر المؤلف أن قصة موسى عليه السلام فيها مواطن عبر كثيرة ومواطن استشهاد متعددة: منها بيان أن قدر الله ماضٍ لا محالة، وأنه لا يستطيع أحد أن يغيره أو يرجئه مهما حاول، وكذلك لبيان عاقبة الظلم والظالمين، ولبيان نفسية الشعوب المستضعفة، ولبيان أن الحق له السلطان الأعظم على النفوس، وغير ذلك من العبر، حيث يستشهد القرآن حسب السياق والحال.
واستعرض المؤلف في كتابه قصة آدم عليه السلام في سورتي البقرة والأعراف، موضحاً دقة استعمال القصة في السورتين حسب السياق والحال، والفرق في العرض في كلا السورتين، وكذلك عرض قصة موسى في سورتي البقرة والأعراف، مستعرضاً جوانب الاشتراك في مواطن، وجوانب الاختلاف في كثير من المواطن الأخرى في كلا السورتين، حيث يذكر أموراً في البقرة لا يذكرها في الأعراف، واختار المؤلف نموذجاً من المواقف المتشابهة وبيّن الحشد الفني فيها، حيث يظهر دقة اختيار الألفاظ والعبارات، لخدمة الناحية الفنية في أدق معانيها أكمل صورها.
في ختام الكتاب، ضرب المؤلف مثالاً في تفسير سورة من قصار السور، بيّن خلال ذلك طرفاً مما فيها من أمور فنية، وقد اختار سورة التين، حيث أوضح جوانب فنية ووقفات جمالية، كالقسم في بداية السورة، ودلالات استعمال “التين” و”الزيتون”، والاستدلال على الجزاء بالأدلة النقلية والعقلية، ودقة استعمال الألفاظ كلفظة “الدين”، وقوة ارتباط الآيات مع بعضها، وارتباط خاتمة السورة بفاتحتها، والتناسق الجميل في اختيار خواتم الآي.