مقال رأي | د. عبد الحكيم بشار
بعد نشوء الدولة السورية الحديثة واستقرار الأوضاع على طرفَي الحدود بين سوريا وتركيا، مرت العلاقات بين البلدين الجارين بفترات من الشد والتوتر، ثم أعقبتها فترات من الود وحسن الجوار والصداقة، ولم يترافق مع أي فترة من فترات اللجوء إلى القوة العسكرية أو التهديد الحقيقي بالهجوم الجوي أو الاجتياح البري.
ولكن بعد لجوء عبد الله أوجلان إلى سوريا ـ دون الخوض في التفاصيل ـ وإعلانه الحرب على تركيا من داخل الأراضي السورية بالنيابة عن النظام السوري عام 1984، خيَّم التوتر على سماء البلدين من جديد، وكان الشعار المعلن لحزب العمال الكردستاني هو إقامة دولة كردية، حيث إن التنظيم المذكور رفع سقف شعاراته من أجل دغدغة مشاعر العامة من جهة، ولكي لا يستطيع أي حزب سياسي كردي آخر على مجاراته في رفع مثل تلك الشعارات، مع أن السبب الحقيقي لوجود التنظيم في سوريا، وبدعمٍ مباشر من دمشق هو استخدام الحزب للضغط على تركيا في موضوع المياه، وحيث تبين لاحقاً من قبل شريحة كبيرة من أبناء المجتمع الكردي مدى خداع ونفاق حزب العمال في شعاراته تلك.
ونتيجة للحرب التي شنّها حزب العمال على تركيا من داخل الأراضي السورية لوّحت تركيا بالتدخُّل العسكري ضد النظام السوري، حيث بلغت الأزمة السياسية بين البلدين ذروتها في 1998، إذ حشدت تركيا حينها قوات كبيرة على حدود البلدين، وهددت باجتياح الجانب السوري إذا استمر النظام السوري في توفير ملجأ آمن لعبد الله أوجلان، مما اضطر النظام إلى التوقيع على اتفاقية أضنة وطرد أوجلان من سوريا، ووقف جميع أنشطة الحزب، وكان قد تم تصنيف الحزب كمنظمة إرهابية أمريكياً وأوربياً.
ومنذ بدايات الثورة السورية استنجد النظام السوري مرةً أخرى بحزب العمال لتوظيفه ثانيةً عبر تكليفه بثلاث مهام أساسية، وهي:
1- تسليمه المناطق الكردية وتزويده بالسلاح مع إعطائه كامل السلطة والتصرُّف في إدارة تلك المناطق لقمع الاحتجاجات الكردية المناهضة للنظام، وقد نجح الحزب في ذلك باستعمال العنف المفرط، وارتكب العديد من المجازر بحقّ الكرد، واغتال النشطاء السياسيين والثوريين، ناهيكم عن الاعتقالات التعسفية والخطف وإنهاء الحياة السياسية.
2- حرّف مسار الثورة السورية في المناطق الكردية باتجاه تركيا من خلال المظاهرات والأنشطة السياسية والثقافية والإعلامية، وجعل وجهة العامة نحو تركيا بدلاً من دمشق، من أجل تخفيف الضغط على النظام، ولكي يطمئن النظام على أن قسماً كبيراً من الكرد غدوا مشغولين بمكان آخر، متجاهلين السبب الرئيسي والمسبب الحقيقي لمعاناة الكرد السوريين.
3- اللجوء إلى أساليب التودُّد الظاهري تارةً والممارسات الترهيبية غالب الأحيان مع الإخوة السوريين من باقي المكوّنات في منطقة سيطرتهم، واستعمال القمع المفرط وكل أشكال الانتهاك بحقهم، ومن ثم فرض أيديولوجيات غير وطنية، ومرفوضة من قبل المجتمع السوري على الأهالي في مناطق نفوذهم.
إن سيطرة حزب العمال الكردستاني على المناطق الكردية، واحتلال بعض المناطق العربية بمحاذاة الحدود التركية الجنوبية، وإعلان إدارته جهاراً نهاراً مع نشر صور أوجلان وأيديولوجية الحزب وأعلامه وجميع أنشطته المعادية لتركيا على طول الحدود، يجعل كل من لديه شيء بسيط من الرؤية السياسية أن يتوقع كلّ حين أن تركيا لن تقبل بأي شكل من الأشكال بحكم العمال الكردستاني على حدوده.
وقد شددت أنقرة على رفضها الأمر مراراً وتكراراً، وهي تطالب الآن إما بإبعاد حزب العمال الكردستاني pkk عن حدوده الجنوبية لعمق 32 كم حسب تفاهمات تركيا مع كل من أمريكا وروسيا عام 2019 أو اللجوء إلى الخيار العسكري لإبعادهم بالقوة عن تلك المناطق، وتركيا لا شك بناءً على قدرتها العسكرية قادرة على تحقيق ذلك بسهولة.
لذا، على الساسة الكرد ونشطائه ومثقفيه البحث في جذر المشكلة ألا وهو السبب الرئيسي لتسليم المناطق الكردية إلى حزب العمال الكردستاني، وأن يفكّروا على وجه السرعة بإيجاد الحل من خلال الضغط على التنظيم المذكور لكي لا يجلب الحرب إلى داخل منازل المواطنين الذين ينهكهم الفقر منذ عشر سنوات، وأن يجدوا صيغة تُبعد شبح الحرب عن بيوتهم.
وذلك قبل وقوع الفأس بالرأس، وأن يروا الحقائق بعقولهم لا بقلوبهم، لأنه عدا عن الغياب التام لتوازن القوى بين الطرفين المذكورين، فالحقائق على أرض الواقع تؤكد أنه بوجود تنظيم pkk في المناطق الكردية، فهذا يعني استمرار الممارسات الترهيبية، واستمرار الفقر والجوع والحرمان، ويعني دوام الأدلجة المشوّهة، ويعني التعليم المشوّه ويعني نشر الجهل والأمية والفساد، واستمرار اختطاف القاصرات والقاصرين، وتدمير بنية المجتمع الكردي التي تمثلها الأسرة، ويعني دوام التهجير، والعبث بالبيئة، و كل أشكال عدم الاستقرار وفقدان الأمان، كما يعني خلق المزيد من الأعداء للكرد وقضيته الوطنية المشروعة.
إن استمرار سيطرة الحزب المذكور على المناطق الحدودية يعني في نهاية المطاف الخيار العسكري التركي لطرده إلى عمق 32 كم.