وكالة سنا – عثمان علي
حقّق المحامي والحقوقي السوري زهير مارديني جائزة “ماريان” لحقوق الإنسان لعام 2024، تكريماً لجهوده في إبراز قضايا سورية عالمياً، بهدف تحقيق العدالة للشعب السوري في المستقبل.
وقال المحامي السوري زهير مارديني في حوار خاص مع موقع وكالة سنا إنه على اللاجئين السوريين مسؤولية كبيرة في تقديم أفضل صورة ممكنة عن السلوك الحضاري للشعب السوري في جميع المحافل الدولية بإبراز الوجه الحضاري التعددي لنا كشعب عريق.
وأضاف أن الحلول الفردية رغم نجاحها الباهر فلن تخلو من عذاب ضمير تجاه الشأن العام فيما لو اقتصرت ضمن نطاق الأسرة والمحيط الضيق، كل ذلك يجب أن يكون له دور في الحياة العامة بالانفتاح على مختلف الأفكار والحضارات، بما ينعكس إيجاباً على استرداد دولة القانون في سورية مستقبلاً.
وتابع مارديني: ألتمس من السوريين جميعاً، ولا سيّما المقيمين في المغتربات الانخراط في منظمات المجتمع المدني السورية للتدرب على العيش في مجتمعات الديمقراطية وتوجيه أبنائهم للتثقّف من العلوم الإنسانية والانفتاح على فهم تجربة الغرب الفكرية والسياسية والاجتماعية، وعدم السماح للتيارات المتشددة المعادية لكل مختلف عنها من استخدام دعايتها ونفوذها في بيوتهم وبين أبنائهم.
الحوار كاملاً مع الفائز بجائزة ماريان الفرنسية المحامي السوري زهير مارديني.
تبارك لكم وكالة سنا فوزكم بجائزة ماريان… ما الأمور التي عززت نجاحكم بالجائزة؟ وكيف رشحتم لها؟ وما هي نظرتكم لحقوق الإنسان؟
جائزة مبادرة “ماريان” هي أرقى جائزة في فرنسا برعاية الرئاسة الفرنسية، وتتضمّن لقاءات مع الرئاسة والسلك الدبلوماسي الأوروبي عموماً، يتم الترشيح لها من الخارجيات الفرنسية حول العالم، عندها يكون للمتقدم تعريف نفسه ومشروعه عبر ملف يقدم لهذا الغرض. أما بالنسبة للأمور التي عزّزت نجاحي فأنا ذاتي لا أعرفها بكل صدق سوى أنني تقدمت للجائزة بشرح مُقتضب، مُثبتاً نشاطي القانوني والفكري في سورية وتركيا وفرنسا، ملتزماً بمعايير حقوق الإنسان النظرية، وحاملاً الكثير من النقد لها، من حيث التطبيق فيما يتعلق بقضايانا في المشرق العربي، فإن سِمة التوازن الفكري والنقد المزدوج لا بدَّ منها لنخرج بجديد يفيد حالنا المُستعصي، ولهذا أعتقد أنه من حقنا بيان الرأي على هذه المفاهيم وتطبيقاتها لما قدمته شعوبنا من تضحيات في سبيل حريتها ولاستعصاء تطبيق هذه المفاهيم حين تنوس الاستحقاقات التاريخية على أبوابها، مما يقدح زناد وعينا بالسؤال والتقصّي عن ما هو مناسب من عدمه من القيم والإيديولوجيات وأنظمة الحكم، هذا مع إقراري بأن الاستلهام من مفاهيم الحداثة كانت وما زالت مسعًى للشعوب العربية الثائرة منذ عام ٢٠١١، وإنْ طرأ عليها بعض العبث الأصولي النكوصي، لكنها تبقى علّة التحرك الأساسي، فلم يعد من المقبول لدى شعوبنا الخضوع لسلطة ديكتاتورية عسكرية تدّعي العلمانية ومحاربة التطرّف وحماية الأقليات الدينية أو لنظام ديني ثيوقراطي يبيع الوهم ويصدّر مفاهيمه بقوة السلاح، ومن النافل القول إن الشعوب نبذت جميع الشخوص والجهات التي تتعامل مع ثوراتها وفق مبدأ الغنيمة.
علامَ ركزتم في أثناء كلمتكم بحفل التكريم؟ وما رسائلك إلى السوريين؟
على اللاجئين السوريين مسؤولية كبيرة في تقديم أفضل صورة ممكنة عن السلوك الحضاري للشعب السوري في جميع المحافل الدولية بإبراز الوجه الحضاري التعددي لنا كشعب عريق، وإن الحلول الفردية رغم نجاحها الباهر فلن تخلو من عذاب ضمير تجاه الشأن العام، فيما لو اقتصرت ضمن نطاق الأسرة والمحيط الضيق، كل ذلك يجب أن يكون له دور في الحياة العامة بالانفتاح على مختلف الأفكار والحضارات بما ينعكس إيجاباً على استرداد دولة القانون في سورية مستقبلاً. أما لأهلنا في الداخل السوري فإنه لا يحق لذوي معتقل أو شهيد أن يعتقدوا بأن تضحيات أنجالهم قد ذهبت هدراً من دون قيمة، وأن أناساً آخرين ينعمون بالعيش الرغيد في أوروبا على حساب دماء أبنائهم وتضحياتهم، جميعنا ما زلنا تحت الخطر في أي لحظة، بل إننا في المغتربات نبذل قصارى الجهود لاسترداد دولة القانون في سورية المؤسسة على حقوق الإنسان والمساواة والديمقراطية، وإننا قد نقدّم أنموذجاً سيدرّس ويُخلّد في صفحات التاريخ بعد إضافاتنا الفكرية والعملية لهذه المفاهيم.
وألتمس من السوريين جميعاً، ولا سيّما المقيمين في المغتربات الانخراط في منظمات المجتمع المدني السورية للتدرب على العيش في مجتمعات الديمقراطية وتوجيه أبنائهم للتثقّف من العلوم الإنسانية والانفتاح على فهم تجربة الغرب الفكرية والسياسية والاجتماعية، وعدم السماح للتيارات المتشددة المعادية لكل مختلف عنها من استخدام دعايتها ونفوذها في بيوتهم وبين أبنائهم.
وفيما يخص التكريم الحافل في نقابة محامي باريس عطفت هذه الجائزة المقدمة من رئاسة الجمهورية الفرنسية إلى مقام السادة المحامين والمحاميات في سورية البَررة لقسم المهنة والذين يؤدون مهمتهم المجتمعية في أسوأ ظروف عرفتها البلاد، كما كان الاستهلال بذكر مناقب فرسان العمل النقابي ولوم السلطة التي قمعت آراءهم والتذكير بأهمية بيانهم الشهير عام ١٩٧٨ برئاسة نقيب محامي دمشق المرحوم الأستاذ إحسان مارديني الداعي لرفع حالة الطوارئ والعمل بالأحكام العرفية، ودعوة المحامين لعدم الترافع أمام المحاكم الاستثنائية اللا دستورية متبنّياً شرعة حقوق الإنسان كمبدأ دستوري، وفيما لو أخذ رأيهم بعين الاعتبار حينها من قبل صاحب السلطة لما انزلقت البلاد في أتون ديون واحتلالات ستستمر نصف قرن من الزمن.
من هو زهير مارديني؟ وكيف كانت نظرتكم للثورة السورية؟ ولماذا لا ترغب بإجراء لقاءات مصورة أو إذاعية؟
أستطيع تعريف نفسي بأنني شاب سوري ينتمي إلى آلام الناس وتطلعاتها، ضارعت الموت عدة مرات بأشكال مختلفة، ولم يصبني بعد، كمختلف أبناء جيلي في سورية، مؤمن بدولة قانون مبنية على ثورة فكرية مجتمعية قبل كل شيء كي لا ننكص نحو أشكال أخرى من الاستبداد.
بالنسبة لمسألة الظهور المرئي فإني لا أرى فيه مسألة ذات أهمية بالنسبة لي حالياً على الأقل، فأي شخص يستطيع إنشاء قناة عبر أحد البرامج وينشر عليها ما يشاء ويتلقّى دعماً من متابعيه وجهات داعمة كبرى أيضاً، بيد أن أعظم الأفكار لم تأتنا عبر التصاوير والتماثيل تاريخياً، وإنما عبر صفحات الأسفار التي نقلت أفكار أصحابها للأجيال فأفكارهم هي ما ينفع الناس، كما أن مسألة شَبق الظهور أو التصرف كنجوم السينما السائدة لدى من ينجز شيئاً ما على الصعيد الشخصي أو العام في العالم العربي تُعزى لغياب الحياة السياسية منذ عقود، وعدم وجود نوادٍ اجتماعية أو منظمات مجتمع مدني تؤمّن ظهوراً محترماً ومعتدلاً لتيسير هذه الحاجة المُبررة في النفس البشرية، بكل الأحوال لست ضد الفكرة كمبدأ، لكنني لا أتفق مع أغلب النمطيات السائدة في هذا الفضاء الإلكتروني الفسيح، الفكرة قبل الصورة يا سيدي الكريم.
السيد زهير… ما فرنسا بالنسبة لكم؟ وكيف ترى المناخ الفكري في منطقتنا من حيث تطبيق قيم حقوق الإنسان؟ وما أثر هذه الجائزة الفرنسية على السوري الملف عملكم كمحامٍ وناشط في الشأن العام؟
أسئلة مهمة أرجو أن يسعفني البيان للإجابة عليها. لا بدَّ من الإشارة إلى تصوّر الشعوب الأوروبية عن الشعب السوري قبل وبعد الثورة السورية، قبيل عام ٢٠١١ كانت مقاعد البعثات الجامعية في سورية محدّدة الاستغلال لطلاب موالين للسلطة بشكل مطلق أو لجماعة (الناس على دين ملوكهم- لن نستطيع التغيير)، وهم قلة قياساً بالفئة الأولى، وبالتالي فإن هؤلاء لم يحملوا وجهة نظر شجاعة أو متوازنة وأمينة لما يجري في بلادهم خصوصاً المختصين بالعلوم السياسية والقانونية، خصوصاً أن منهاجنا قديمة، ولم يطرأ عليها تحديثات مهمة، ويندر أنْ تلقى أحداً منهم يملك ثقافة خارج المقرر الجامعي، هذا ما حدثني به أساتذة في القانون والسياسة من الزملاء الفرنسيين، بأنهم كانوا يتفاجؤون بمستويات فكرية متواضعة وسلوكية ليست بالمحترمة لغالبيتهم، وأن التخلص منهم يتم عبر منحهم درجة النجاح وإرسالهم لبلادهم فيما بعد. أما بعيد موجة اللجوء الكبيرة أصبح التماس أكبر مع نخب وشرائح مجتمعية عديدة، مما وضّح الصورة بشكل أفضل وكأنهم يقرون بفوائد موجة الهجرة السورية لفهم أعمق للشعب السوري ولحضارته ولما يعانيه من حيف. أما من الناحية الشخصية فإني مدين للجمهورية الفرنسية، ولكل نقطة دم سالت من ثوارها لاستضافتي في بلادهم ومعاملتي أسوة بالمواطنين الفرنسيين الأصلاء، بل إن فرنسا قدمت لي ما لم تقدمه سورية، لكن هذا لا يتناقض مع حريتي الفكرية وتسليط النقد اللازم إذا كان له داعٍ عندما يتعلق الأمر بازدواجية المعايير لقضايا شعوبنا في المشرق.
بينما كثير من الناقدين لقيم الحداثة، ولكل ما هو غربي، ومنهم مقيمون في الغرب ومستفيدون من نظامها الاجتماعي يرمون بسهامهم الإيديولوجية نحو هذه القيم الإنسانية المؤسسة على فكر عظماء الفلاسفة كجان جاك روسو وفولتير ومونتسكيو التي دفع الشعب الفرنسي لها ثمناً باهظاً قرابة التسعين عاماً بين مدٍ وجزر بين الملكية والجمهورية، وبرأيي أن المعركة للحفاظ على هذه القيم لم ولن تنتهي حتى في معاقلها إقراراً بنسبيتها التي لا تنكرها مبانيها النظرية، بينما يسلك الناقد المُنكر لها كلّياً سُبل البديل اللاهوتي المطلق الشافي والكافي لأسقام شعوبنا وعند أول مُعترك سياسي أو فكري تتبيّن النسبية في تطبيقه التي لا يُقر بها من الناحية النظرية، فيعود للترقيع الإيديولوجي وغالب الأمر يكون الاصطدام الدموي مع رفاق الفكر والمنهج السابقين قبل الخصوم. هذه السردية المكررة هي بنت الاستبداد وروايته المفضلة ومن تدبيره هو ومن يقف خلفه من الداعمين والمبررين لوجوده في منطقتنا من الدول العظمى صاحبة القرار، فرب استبداد عسكري شمولي يكتم الأنفاس خير من شعوب تُساق بالعاطفة الدينية.
وجهة النظر الغربية النمطية هذه بدأت تتآكل في عصر الانفتاح المعلوماتي الذي يطال العالم الغربي بتأثيراته، ومن النافل ذكر الأمثلة التي نعيشها في أيامنا هذه، فالحراك الطلابي اليساري في فرنسا ولا سيّما طلاب المعهد العالي للعلوم السياسية قدّم مثالاً يُحتذى في كسر هذه النمطية من التفكير والدعوة لمراجعة السياسات الغربية، وهذا باب مهم للتعاون معهم على الصعيد الاجتماعي كبداية تأثير المجتمعات المهاجرة والأجيال الثائرة على السياسة الغربية، فيما يخص معاناة شعوبنا.
بل إذا لاحظتم أن منطقتنا تشهد كل عقد من الزمن على ولادة تنظيم أصولي مُتشدد أكثر قوة وانتشاراً من سابقه، بل أكثر حقداً على الغرب وقيمه من سابقيه، كما أن بعض منسوبيهم من مواطني الدول الغربية من أصول مهاجرة بما يعكس حالة حنق شعبي لديهم من سياسة استبقاء أنظمة الاستبداد كأحد أسباب انخراطهم فيها، وأيضاً فشوّ الدعاية الأصولية المضادة بينهم نصرةً لبني جلدتهم، فماهي الرواية الأكثر احتمالية للتصديق في أوساط الأجيال المهاجرة في أوروبا عندما يرى استمراء قتل بني ثقافته ولغته ودينه في بلدان المشرق عموماً؟ هل سيكون أقرب لقيم الحداثة وحقوق الإنسان والدعوة لبناء دولة قانون أم أنه سينحو جامحاً نحو التطرّف مُستلهماً أسوء ما في الموروث من خطاب وسلوك؟ وهذا مُلاحظ منذ حرب السوفييت على أفغانستان، وذلك مردّه غياب الوضع الطبيعي لحياة لائقة ومحترمة لبني البشر في بلادنا، لذا فإن وجهة نظري المطروحة في كل محفل أكون فيه هي معالجة هذا الوضع الشاذ بالعودة للحياة السياسية الطبيعية و بإرساء ديمقراطية مُتدرجة حقيقة مبنية على قيم الحداثة وحقوق الإنسان في بلاد المشرق بالاستفادة من الكم البشري الكبير للاجئين في أوروبا والجالية ذات الأصول المهاجرة، ليس حباً بنا كشعوب فالدول العُظمى ليست جمعيات خيرية، وإنما مراعاة لمصالحهم وسلامةً لشعوبهم التي بدأت تنحوا باتجاه التطرّف نكوصاً عن قيمها الحداثية، أي أن الغرب يخسر معركته الفكرية على أرضه بسبب هذه السياسة التي يُصرّ ساسته على اتباعها وعدم مراجعتها لأسباب حيث أقر أنني أجهلها لحداثة السن والخبرة، خصوصاً أن اليمين المتطرّف في الغرب لا يخفي تأييده لروسيا التي تتبنى فلسفة الأوراسية الجديدة كمدرسة فلسفية تَبزُ الحضارة الغربية بعدة مواضع وجيهة النظر في نقد فلسفتها وحضارتها، مُعضدّةً بقوة عسكرية واقتصادية أثّرت على دول أوروبا بشكل لا يمكن إنكاره.
بمراجعة فكرية حقيقية يسلكها الغرب وبتأسيس ديمقراطيات وليدة في دول المشرق فإنه يفي بالتزامه الأخلاقي بدعم عالمية حقوق الإنسان وقيم الحداثة، ويبدأ من التخفف من أعباء الهجرة التي تكاد تكون دعاية اليمين المتطرّف الوحيدة في كل انتخابات قائمة، بهذه المقاربة الجديدة تَرد الدول الغربية عن نفسها غائلة التطرّف على أرضها وبين أفراد شعوبها، لأن وعي الشعوب قد فَلَت من عقال الإذاعة الواحدة والرواية الرسمية في هذا العالم الرقمي، بل إن المناحي الاقتصادية المشتركة فيما بعد مع الديمقراطيات الوليدة ستكون أدعى أهميةً للعالم الغربي من الركون إلى دكتاتوريات وجودها أدعى لتهديد أمن العالم بأسره.
هذا قولي في مبلغ علمي إلى ساعته، ولا أحمل أحداً عليه من الناس.
ما هي مبادرة “ماريان”؟
مبادرة أطلقها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عام 2021، حيث تهدف إلى دعم المنظمات الدولية وجمعيات حقوق الإنسان والعمل مع المعنيين والناشطين في حقوق الإنسان بمختلف دول العالم. أما الاسم فإنه الشعار الوطني للجمهورية الفرنسية، وتجسيد للحرية والعقل، ولها تمثال برونزي يطل على ساحة Place de la Nation في باريس.
الجائزة تعد الأقوى في فرنسا، وهي من أهم الجوائز في أوروبا، وتحتوي على لقاءات مهمة مع مسؤولين فرنسيين وأوروبيين، وتدريب على دورات في مجال حقوق الإنسان والخطابات السياسية، يتضمنها رحلات إلى مقار الاتحاد الأوروبي ومجلس حقوق الإنسان، ومنحت جائزة مبادرة “ماريان” العالمية للمدافعين عن حقوق الإنسان في دورتها لعام 2024 لـ 14 شخصاً من المدافعين عن حقوق الإنسان من مختلف الدول، بينهم المحامي زهير مارديني.