ودعت مدينة إدلب أمس الخميس المؤرّخ والباحث السوري فايز قوصرة، الذي توفي في مدينة إدلب مسقط رأسه، عن عمر ناهز 79 عاماً، بعد معاناة مع المرض.
وفي نيسان الماضي، تعرّض الراحل إلى أزمة صحية أسعف على إثرها إلى المستشفى، جراء احتشاء دماغي، ليدخل مطلع الشهر الجاري في غيبوبة كاملة جراء المرض، وفق ما نشر القائمون على صفحته الرسمية في “فيسبوك”.
ودرس “قوصرة” في كلية الآداب بجامعة دمشق، قسم التاريخ، كما حصل على إجازة في الدراسات الفلسفية والاجتماعية، وكان محاضراً سابقاً في قسم الآثار بجامعة حلب.
وُلد المؤرّخ الراحل عام 1945 في أسرة ثقافية، وكان شغوفاً منذ طفولته بالتاريخ والآثار، متأثّراً في ذلك بجدّه لأمه، المؤرخ محمد راغب الطباخ الحلبي، مؤلّف كتاب “إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء” (سبعة أجزاء)، والذي أهدى له كتابه “إدلب المدينة المنسية”؛ حيث كتَب: “إلى جدّي لأُمّي محمّد راغب الطبّاخ الذي أرّخ لحلب، وأوّل من طبع عن تاريخ إدلب”، كما يذكر قوصرة، في الإهداء نفسه، أنّ خاله محمد أسعد مقيد، الذي كان لواءً جوّياً، ألّف كتاباً بعنوان “مسيرتي في الحياة: تاريخ ما لم يؤرّخ له الآخرون” (2005).
حاز فايز قوصرة على إجازتين في التاريخ والدراسات الفلسفية والاجتماعية من “جامعة دمشق”، والتحق بالمركز الثقافي الذي افتتح في إدلب عام 1960، ونشر أوّل مقال له بعنوان “إيمانٌ بالنجاح” عام 1962 في مجلّة “الخمائل” الحمصية، والتي عمل مراسلاً لها.
كما عمل مراسلاً ومحرّراً في العديد من الصحف والمجلات؛ من بينها صحيفة “إدلب الخضراء” التي تولى إدارة تحريرها عام 1986، ومجلة “سنابل” الليبية التي عمل محرّراً وكاتباً فيها عام 1990.
ونشر المؤرّخ الراحل أول كتبه عام 1986 بعنوان “الرحالة في محافظة إدلب”، حيث خصص الجزء الأول لإدلب ومعرة النعمان، والثاني (صدر عام 1988) لأريحا وجسر الشغور.
بعد ذلك، استمرت مؤلفاته التي وصل عددها إلى قرابة ثلاثين كتاباً، وثّق فيها جوانب مختلفةً من تاريخ إدلب ومعالمها الأثرية.
وظهر المؤرخ الراحل، في مقابلة مصورة سابقة، قال فيها، إنه يعمل في جمع التراث وتوثيقه في محافظة إدلب خصوصاً، “لكونها أغنى المحافظات بالآثار والأوابد الأثرية”.
السوريون ينعون الراحل
ونعى سوريون عبر وسائل التواصل الاجتماعي الراحل، واصفين إياه بأنه “قامة كبيرة ورمزاً للتاريخ والثقافة والروح لمحافظة إدلب”.
وكتب الصحفي عمر حج قدور، “ودعنا اليوم في مدينة إدلب الباحث والمؤرخ العربي السوري الكبير الأستاذ (فايز قوصرة)، عاش كريماً كبيراً رغم تهميشه من قبل السلطات في سورية، ومات حراً شامخاً بما قدمه من توثيق وتأريخ لآثار البلد وحجارتها التي مازالت تعيش في كتبه وتوثيقاته”.
الصحفي عمر حج أحمد كتب بدوره” الأمة التي تهمش قاماتها العلمية، وترفع وضيع العلم على حساب علمائها وأدبائها ومؤرخيها.. هي أمّة فاشلة، فايز قوصرة حاربه الأسد الأب والابن وكل السلطات التي مرت على مسقط رأسه إدلب”.
وأضاف: “حاربوه وهمّشوه وأبعدوه عن مشهد التأريخ والثقافة والعلم، ولكن كتبه وأبحاثه ومكتبته الغنية، وحتى دكانته الصغيرة ستبقى شاهدة على عظمة هذا الرجل، وما قدمه لأمة ما قدّرته..”.
فيما قال مدير متحف إدلب أيمن نابو،” أخجل أن أنعيك أستاذي الكبير، قدر القامات أن ترحل بصمت في زمن الإمعات التي لا تقدر معنى أن تحمل هماً يعتمد لآلاف السنين، اليوم ترحل تاركاً إرثاً خالداً أبداً خلود القناطر والأعمدة والتيجان والممالك والحضارات التي مرت والتي تستعصي على النسيان، اليوم ترحل ويفتقدك المختص والباحث والطالب الذي يقدر صنيعك، ويعلم حجم الجهد والتعب الذي تكبدته، لتخرج لنا الكتب التي أصبحت مراجعنا عن إدلب،
اليوم ترحل ولم تكمل ما بقي لديك من أفكار لم تنجز بعد كما حدثتني عنها”.
كما نعى الائتلاف الوطني السوري المؤرخ فايز قوصرة، وذكر في بيان له اليوم الجمعة أن الراحل ترك وراءه عشرات المؤلفات والكتب الثقافية، أهمها: “الرحالة في محافظة إدلب”، و”من إيبلا إلى إدلب”، و”الثورة العربية في الشمال السوري، ثورة إبراهيم هنانو”، و”التاريخ الأثري للأوابد العربية الإسلامية في محافظة إدلب”، و”قلب لوزة درة الكنائس السورية”، و”إدلب البلدة المنسية”، وغيرها من الكتب والمقالات.
وأضاف البيان أن الراحل أنجز مكتبة ثقافية ثرية تعد مرجعاً في الآثار والتاريخ للأجيال القادمة وكان لأعماله الفضل في إلقاء الضوء على العديد من الجوانب من تاريخ إدلب.
أبرز مؤلفاته
الراحل قدّم مجموعة من الأبحاث والمنشورات والكتب التي ساهمت في إحياء التراث والتعريف بتاريخ إدلب، منها كتاب “إدلب البلدة المنسية”.
ومن أولى مؤلفاته عام 1984 “الرحالة في محافظة إدلب”، كذلك ألّف “حصن شغر – بكاس” و”حطين الثانية” و”قلب لوزة درة الكنائس السورية” و”من إيبلا إلى إدلب”، بحسب “دار المقتبس”.
ومن كتبه أيضاً: “التاريخ الأثري للأوابد العربية الإسلامية في محافظة إدلب”، و”الثورة العربية في الشمال السوري: ثورة إبراهيم هنانو”، و”آثارنا في لوحات فوغويه”، و”مدينة كفر تخاريم: الأصالة الدائمة”، و”جولة في متحف إدلب”، و”جولة أثرية في كفر البارا وضواحيها”، و”أضواء جديدة في تاريخنا الأثري”، و”حارم: دمشق الصغرى”، و”شهبا في التاريخ الأثري”، و”ولاية الفوعة”.
كما حقّق قوصرة كتباً أُخرى، من بينها “الحلّة السَنية في الرحلة الشامية” لمحمد الكيالي بن عمر.
في أحد لقاءاته الصحافية قبل سنوات، تحدّث فايز قوصرة عن رؤيته التي تستند إلى “ربط التاريخ والآثار”، قائلاً إنّ “علم التاريخ لدينا فيه ثغرة كبيرة؛ حيث يجري الاعتماد على الحوليات القديمة دون الجديدة التي تتمثّل في اللقى والمواقع الأثرية التي نُقّب فيها، والتي تُعطينا صورةً أصدق مِن قيل وقال”، مُضيفاً أنّه اهتمّ بكشف “أسباب هذه الحضارة العظيمة والغنى الأثري فيها”، حيث يوجد “ألف موقع أثري في محافظة إدلب، ففي كلّ ثلاثة كيلومترات يوجد موقع أثري”.
كما بيّن أنّ أبرز سبب هو “وجود المنطقة في موقع وسطي يشكّل عقدة مواصلات”. وفي لقاء آخر، تحدّث عن تأثّره بسنوات الحرب التي عاشتها سورية، مُشيراً إلى أنّ لديه قرابة عشرين كتاباً آخر لم تُنشر بعد.