محمد الهادي – وكالة سنا
غيمة من البؤس لا تنقشع عن النازحين كل شتاء، لا الخيام تصد الهواء ولا أوضاع النازحين تعين على تخفيف برد الشتاء وتكاليفه.
وبحكم العمل خرجت جولة إلى مخيم في ريف إدلب قرب سرمدا، يدعى مخيم عباد الرحمن، نزحَت إليه العائلات من ريف حلب الغربي وريف إدلب الجنوبي.
بضع خيمات متلاصقة تحوي عائلات مهجرة، لكل واحدة منهن مأساة مختلفة، عدا مأساة التهجير المشتركة.
موقد للطبخ:
تصادفت جولتي مع وقت إعداد الطعام. النساء أمام الخيام وتعمل كل واحدة منهن على إذكاء نار موقدها.
موقد من تنكة أو من أحجار متجاورة يرسم لك صورة حياة العرب الجاهليين الرحّل الذين كانوا يستخدمون الأثافي، بيد أن الجاهليين كانوا أفضل حالاً من المهجرين، إذ لا حطب في الموقد، بل أكياس من القمامة وقطع متلفة من (البلاستيك) وكل ما يتاح لتلتهمه النار، فلا قدرة للأهالي على شراء الحطب.
لفتت انتباهي امرأة مسنة ثمانينية، تعمل بشغف على إعداد وجبة الغداء. اقتربت منها وهي تحرك الأرز على موقدها لتشرح لي وضعها.
تقول المسنة إنها حصلت على الأرز من إحدى جاراتها، وتقوم بإعداده لأحفادها الأيتام علها تستطيع دفع الجوع عنهم لهذا اليوم، كانت في شدة البؤس تشرح لي غلاء الأسعار وانعدام الدخل، وتبكي عجزها عن إطعام أحفادها يومياً.
ما يؤلم هذه المسنة هو طلب أحفادها منها أن تطعمهم كل ليلة، إذ لا تستطيع أن تطعمهم سوى خبز عليه ماء وزعتر في أحسن الأحوال، حيث أن الخبز لم يعد في متناول الجميع بعد موجات غلاء متكررة في منطقة إدلب.
انتهى إعداد الطبخة ولحقتُ المسنة إلى خيمتها. كانت المفاجأة أن أرض الخيمة غير مفروشة بغير (الكرتون) مع أولاد ينتظرون وجبة جدتهم.
سألت الجدة عن مستلزماتها في الشتاء، فقالت نريد سلة غذائية، قلت لها: والفحم والتدفئة؟ قالت: (ابني خلينا ناكل أول شي بعدين منفكر بالدفى، بحرامات منتغطى بس كيف بدهم يشبعوا الأولاد بلا أكل).
تأمين الخبز مهمة متعبة:
خرجت من خيمة الجدة أكمل جولتي. كل من حولي يتحدثون عن الخبز وموجة غلائه الأخيرة بسبب تدهور سعر الليرة التركية التي يتعامل بها سكان المناطق المحررة في سورية.
أثناء جولتي كان سعر ربطة الخبز الواحدة (450 غ) 3 ليرات تركية، إذ زاد السعر عن وضعه السابق 70% تقريباً.
انعدام الدخل عند العديد من العائلات، وغلاء المعيشة، تترافق مع كونهم مهجرين والشتاء قادم، هذه حقاً: (موتة وعصة قبر).
أمشي بين الخيام فأسمع صوتاً مرتفعاً: يا رسول الله شفاعة! يا حبيب الله شفاعة! سألت مدير المخيم عن الشخص الذي ينشد فأرشدني إليه، دخلنا وهو يهز ابنته لكي تنام وحوله أطفاله، وزوجته مريضة في زاوية البيت (من ذوي الاحتياجات الخاصة)، كلما فاتحته في أمر يكرر قول: حسبنا الله ونعم الوكيل! ثم قال: “شو الواحد بدو يحكي، أنا خبز بدي 4 ربطات باليوم، من وين بدي جيب، عندي أولاد ومرتي عاجزة، أيام مناكل وأيام لا، جايين على شتاء ولازمنا كلشي، فحم وحطب وأكل ولبس، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
أين كنا وأين نحن؟!
في ملحق المخيم على أطرافه تسكن عائلة كبيرة، جد مسن ومعه بناته الأربعة الأرامل وأحفادهن يسكنون في بضع خيمات، استقبلني بغضب في البداية لأني أحمل الكاميرا، وضعت الكاميرا جانباً ودخلت إلى خيمته.
قال لي إنه يتحسس من الكاميرا لأن الكثير من الأشخاص صوروا وضعه المأساوي ولم يخدموه بشيء.
ضيّفَنَا قهوة مُرّة وبدأ يشرح وضعه، يقول إنه نزح من سراقب ويعيش في هذه الخيام مع بناته الأرامل بلا عمل. طائرات الأسد وروسيا رمّلت كل بناته في أوقات متفرقة.
يشتكي لي ضيق الحال وغلاء المعيشة والمرض الذي يصيبه وزوجته في وقت لا يملك فيه ثمن الدواء، فهو بالكاد يؤمن خبزاً لمن معه، وهو يقول: “يا ابني مافي من هالدوا بالمستوصف، مافي شي مجاني”.
قاطعته زوجته المسنة لتقول: “وين كنا ووين صرنا يا ابني، ما عاد عنا شي بسبب ابن الحرام، الله يهلك كل ظالم”، يداها إلى السماء ودموعها إلى الأرض، وهي تكرر: “وين كنا ووين صرنا، الله ينتقم منك يا بشار”.
يقول الجد إنهم كانوا يملكون بيوتاً وعقارات ورزقاً وفيراً في مدينته سراقب، لكن نظام الأسد سرق كل شيء وهجر كل المدينة وقصفها ودمرها ليسيطر عليها، علاوة على ذلك يقول الجد إن المنظمات الإنسانية لا تصل إليه ولا تخدمه إلا نادراً.
ابتسامة صورة:
في نهاية الجولة صورني زميلي داخل المخيم، وصور الأولاد حولنا، ثم عرض الصورة عليّ، فإذ بي عابس غضبان، ملامح القهر والضيق بدت على وجهي، وكذلك على الأطفال من حولي.
طلبت بعدها من الأطفال أن يتجمعوا حولي لنلتقط صورة جماعية، تبقى في الذاكرة والأرشيف.
أيها الأطفال: فلنبتسم جميعاً، ابتسامة من أجل صورة.