24.4 C
Damascus
الخميس, أبريل 25, 2024

 هل قرأت كتاب رجال من التاريخ لـ “علي الطّنطّاوي”؟

إعداد: عثمان علي

هذا أديب الفقهاء وفقيه الأدباء الذي بذل وقته كلّه في القراءة والكتابة، صاحب الأسلوب الأدبي الرفيع، والفكر الإصلاحي النيّر، كتب في قضايا اجتماعية كثيرة، منها ما يخص الشباب والطلاب والنساء، وحتى الدعاة والمفكرين وعامة الناس، وقبل ذلك، كان يقدّم هذه القضايا في الإذاعة التي كان يعمل فيها بدمشق، نعم إنّه الشيخ الأديب علي مصطفى الطّنطّاوي.

ولد الشيخ – رحمه الله – تعالى في دمشق عام 1909، في أسرة معروفة بالعلم والالتزام، والده الشيخ العالم مصطفى الطّنطّاوي، وجده هو محمد الطّنطّاوي أحد علماء دمشق، درس الشيخ علي الحقوق بدمشق، وعمل رئيس اللجنة العليا للسوريين لمدة ثلاث سنوات، درَّس في العراق وسورية والسعودية، بعدها تفرّغ للعمل الإعلامي، وقدّم برامج تلفزيونية وإذاعية عدة، أُبعد الشيخ عن سورية عام 1979م.

قدّم المؤلف في كتابه هذا (رجال من التاريخ) عملًا أدبيًا مميزًا، واستعرض لنا التاريخ بطريقة بعيدة عن الأسلوب التقليدي، حيث جمع بين غزارة علمه واطلاعه الواسع، وبين أسلوبه الرفيع العذب، فخرج لنا هذا الكتاب بصورة مميزة، هذا الكتاب هو تفريغ لعدد من أحاديث الشيخ كانت تذاع في إذاعة دمشق، بعدها أُعيد إنتاجها على هذا الشكل، وصدرت الطبعة الأولى عام 1958، بلغ حينها 300 صفحة، تناول فيه الشيخ عدداً من الشخصيات التاريخية، منهم العلماء والشعراء والقادة والحكام والنساء.

والشيخ أشار إلى ذلك في مقدمة الطبعة السابعة للكتاب، يقول: “كل ما في هذا الكتاب بقية من أحاديث كانت تذاع لي من دمشق قبل أكثر من خمس وثلاثين سنة، استمرت إذاعتها أعوامًا، تعبت في إعدادها كثيرًا”.

أريد قبل أن أبدأ، لفت انتباهكم إلى فقرة مهمة، تكشف عن همة عالية لا تفتر، وعزيمة ثابتة لا تتغير، وإصرار كبير لا يتأثر بعوامل أو ظروف، وهي حبّ الأديب الفقيه القراءة والمطالعة، إذ يقول: “أنا مدمن القراءة، يومي كله إلا ساعات العمل، أمضيه في المطالعة ومحادثة الكتب، من يوم أتقنت القراءة، قبل سبعين سنة، وأنا أقرأ” (ص14). يا همة فاقت الجبال، نعم لقد قضى الشيخ حياته في المكتبات وبين الكتب، وما كتُبُه إلا دليل على كثرة اطلاعه وقراءته.

بدأ الطّنطّاوي ـ رحمه الله ـ كتابه بعد المقدمة بـ “يوم الهجرة” تحت عنوان: “سيد رجال التاريخ”، وكأنه اختار هذا الموضوع ليقول لنا: لولا هذا اليوم العظيم من هذا الرجل العظيم لما كان لكل الشخصيات التي سأذكرها وجود أو ذكر، ولما كان هناك ذكر لأبطال المسلمين في الأندلس والهند وكل بلدان العالم، نعم لقد وصَفَ هذا اليوم بأنه نقطة تحول في التاريخ الإسلامي، وتحدث عن النبي صلى الله وعليه وسلم، وأعماله بعد الهجرة.

وتحدّث الشيخ في كتابه عن 56 شخصية بشكل أساسي، متنوعة أزمنة وأمكنة، وكذلك عملًا وقيمًا، من تلك الشخصيات: الحديث عن مناقب أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق (معلمة الرجال)، وعن زهد وورع عمر بن عبد العزيز (الخليفة الكامل)، وعن ردّ الإمام الغزالي على الفلاسفة والملاحدة (حجة الإسلام)، وعن (الملك الصالح) و(باني مراكش) و(الشيخ الكافي) و(عائشة التيمورية) و(الصقر الأموي).

تحدّث عن الجرأة والصراحة عند الحسن البصري، وقال فيه: “كان الحسن صداعًا للحق، لا يسكت عن إنكار منكر، ولا تمنعه منه هيبة أمير، ولا بطش ملك، وكان يعرض تعريضًا، وحينًا يصرح تصريحًا”، من أمثلة ذلك صراحته مع عمر بن هبيرة (ص 85)، وتحدّث عن الزهد والورع عند سعيد بن المسيب، وعن طلب هارون الرشيد العلم، وذكر أنّه رحل ووالداه الأمين والمأمون لطلب العلم من بغداد إلى المدينة (ص 139). وغير ذلك من الشخصيات المميزة في التاريخ الإسلامي العظيم.

وقدّم الشيخ للشباب مثالًا في أهمية اتخاذ القرار الشجاع، كيف أنّ قرارًا شجاعًا في موقف قد يغير مسار حياة الإنسان ومستقبله، يَذكرُ أنّ الدنيا اجتمعت في الأندلس، والأندلس اجتمعت في قرطبة، وهي اجتمعت في القصر (قصر عبد الرحمن الداخل)، حيث أُعد كل شيء لاستقبال وفد قيصر، الذي قدم من القسطنطينية يلتمس تأييد الداخل، وتطلعت نفوس الخطباء إلى الكلام في هذا المقام.

واختار الخليفة ضيف الأندلس ومؤلف الأمالي الإمام أبو علي القالي البغدادي لهذه المهمة، وعند الكلام أرتج عليه، هنا يتّخذ شاب قرارًا شجاعًا، ويقف على المنبر، من بين العلماء والشعراء والخطباء والبلغاء، ويرتجل خطبة لم يسمع الناس مثلها، هزّ القلوب وملك المشاعر، نبّه الخليفة إلى مكانه، فسأل عنه فقالوا: إنه منذر بن السعيد البلوطي، قال لأرفعنّ منه فإنّه أهل لذلك، فولّاه القضاء، والخطابة، وبعد بناء مدينة الزهراء ولّاه خطابة مسجدها (ص 239).

أيها السادة:

تناول المؤلف جوانب مميزة من الشخصيات التي تحدث عنها، وأرى أنّ المميز أيضًا دقة اختيار الشيخ علي لشخصيات متنوعة من شعراء وأدباء وقادة ونساء وملوك وحكام تتنوع وتختلف القيم المستفادة من كل شخصية على حِدا من عصور مختلفة، وهذه مميزة بذاتها، حيث يتعرّف القارئ على بلاد دخلها الإسلام لم يتعرف عليها من قبل، غير أنّ الشيخ ذكر شخصيات ليست هي الهدف بنفسها، ولكن لينبّه إلى غرض مميز، مثال ذلك، ذكره عائشة التيمورية، حتى يطلع القارئ إلى غرض أدبي رفيع، وهو رثاؤها ابنتها.

أما أسلوب الشيخ فإنّه بدا لنا من استخدامه التراكيب والألفاظ، والتنقل من أسلوب لآخر، ومن غرض لغرض، إسلامية أسلوب المؤلف – رحمه الله ـ (وهذا ما يعرف به المؤلف في كتاباته)، وذلك من خلال وضوح الألفاظ ودقتها وسموها، وبراعة التراكيب الألفاظ والأغراض، حيث كانت بعيدة كل البعد عن الغموض والتعقيد والفجاجة، والمتمعِن في كتابات الطّنطّاوي يعلم أنّه متأثر بالأداء القرآني والبيان النبوي، من توجيه كلامه لمختلف المستويات، واختيار الصور بدقة وعناية، مع اللغة البلاغية العالية.

مثال ذلك، عندما علّق الشيخ على جرأة منذر بن سعيد البلوطي على الخليفة عبد الرحمن الناصر: “يا أيها السادة: إذا أردتم الهيبة في الصدور، وهذه الجلالة في النفوس، وهذه المنزلة عند الخليفة والناس، فاعلموا أنّها ما جاءت إلا من إخلاصه لله، وخوفه منه، وعبادته لله، واتصاله به. إن من خاف الله خافه كل شيء”، ص 242.

هل لاحظت – أيها العزيز – بماذا بدأ الشيخ تعليقه؟ “يا” مع حرف التنبيه “ها” عكس ذلك حرصه على انتباه القارئ لما سيذكره لأهميته، ثم استخدم لفظة “السادة” استعطف بها قلوب المنادين، بعدها أسلوب الشرط، حيث يتشوق القارئ إلى الوصول إلى الجواب، ويؤكد المعنى بأسلوب القصر، ولعلّه أخذ تركيب: “إن من خاف الله خافه كل شيء”، من قوله تعالى: (لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله)، والأمثلة على ذلك كثيرة.

ومن الأساليب التي اتبعها المؤلف استخدامه أسلوب الاستفهام في كتاباته، علّ ذلك أنّ أصل الكتاب مادة كان يذيعها الشيخ كما ذكرنا، وهذا أسلوب (أسلوب الاستفهام) يكثُر عند مقدمي البرامج الإذاعية والتلفزيونية، وذلك لما له دور في إثارة أفكار المتلقي، وشدّ انتباهه إلى أفكار مهمة، مثال ذلك الصفحة: (24،26،32، 479).

وقد استخدم الطنطاوي أسلوب التشويق والإثارة، وذلك ليدفع المتلقي إلى الانتباه والملاحظة والمتابعة والاستجابة، نعم هذا الأسلوب غلب على معظم الكتاب، ومن هذا، كان لا يستخدم الشيخ اسم الشخصية التي يتحدث عنها، ولا ريب أن هدفه تشويق القارئ لمعرفة صاحب الشخصية التي يتحدث عنها، ومن أمثلة ذلك: “معلمة الرجال”، “سيدة جليلة”، “العالم النبيل”، “ناصر السنة”، “شاعر يرثي نفسه”.

وفي السياق هذا، لاحظ معي كيف استخدم الطّنطّاوي أسلوب التشويق بطريقة مبدعة مميزة، تحت عنوان: “من ورثة الأنبياء”، يقول: هذه قصة عالم. عالم أخلص للعلم حتى جعل طلبه أكبر غاياته وغاية حياته… وكان في هيبته وجرأته وصراحته أمة واحدة”، وبعد الحديث عن الشخصية، يقول: وكان سعيد. سعيد؟ (سعيد بن المسيب) لقد ترك الشيخ فرصة للقارئ حتى يبحث عن صاحب هذه الصفات المميزة.

ومن أسلوب الشيخ، أنّه كان يستخدم بعض العبارات أو المفردات العامية والمصطلحات الأجنبية، وهذا أحد أساليب الشيخ في كتاباته ما يدل على ارتباطه بالعصر، وكذلك ثقافة المؤلف رحمه الله تعالى، وقد يكون السبب أنّ مصدر هذه الكتابات أنّها كانت تذاع على إذاعة دمشق كما ذكرنا، ليلفت أسلوب المشاهدين.

هذا عرض موجز عن كتاب الشيخ علي وأسلوبه الأدبي العالي، أما فوائد هذا الكتاب من حكم وعبر ومعلومات فإنّها كثيرة، ولا تحصى في مقال أو اثنين، لذلك أيها القارئ عُد للكتاب وتعرّف على أحد نتاج رجل قضى حياته في المكتبات والكتب والمطالعة، وأنا أقرأ الآن من الطبعة الحادية عشرة 2011، عن دار المنارة، والسلام.

أخبار ذات صلة

آخر الأخبار